
القدوة وتأثيرها في التربية
كما النبتة تفتش عن ضوء الشمس كي تنمو وتزهر، وتمتد فتغدو شجرة عظيمة مثمرة، يرتبط الإنسان بما حوله، ويتأثر بمن يعايش، وبقدوات في الماضي تتحدث عنها الأمم جيلاً بعد جيل، فيتأثر بها، وتسري روحها في داخله، ليكون امتداداً لخير بدأ به الأسلاف يوماً ما.
ولذلك فإن الارتباط بالقدوات ليس ترفاً، بل هو محور أساسي لتربية سوية، إذ بغير الاقتداء يفقد الطفل إجابات مهمة حول حياته ومجتمعه وأمته، وتختل نظرته لواقعه ومستقبله، ومن هنا تأتي أهمية القدوة التي تصل إليه من خلال كل مرحلة من مراحل حياته، يتابع ويشاهد ويسمع ويسأل ويتأثّر، ثم يبدأ بالاقتداء، وهذا الاقتداء هو ما يرسم جزءً مهماً من ملامح شخصيته.
وتعرف القدوة في معجم المعاني الجامع أنها: من يُقْتدى به، أسوة، من يتّخذه الناسُ مثلاً في حياتهم، وتعرّف في معجم اللغة العربية المعاصر أنها: جمع قُدُوات وقُدْوَات: من يُقْتدى به، أسوة، من يتّخذه الناسُ مثلاً في حياتهم:-لي بك قدوة، – قدوتي في الحياة معلِّمي.
وقد وردت القدوة في القرآن الكريم، وأمر الله تعالى بها نبيه أن يسير ويقتدي بخطى الأنبياء، فقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]، كما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتأسي والاقتداء بنبي الأمة حيث قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
والقدوة تحمل معاني عديدة منها الأسوة، والمثل، والإمام وتتجه هذه المعاني نحو من ينشر الفضيلة والخير بسلوكه وأخلاقه، مما يجعل الناس يقتدون بمثل هذا السلوك فيغدو هو قدوتهم، كما كان رسول الله قدوتنا في الحياة، وهو الذي قد بُعث ليتمم مكارم الأخلاق.
محتويات المقالة
ومن هذا المنطلق فلابد أن نتعرف إلى دور القدوة في تكوين في حياة الطفل:
- منذ بداية نشأة الطفل، في مراحل نموه الأولى:
يتعرف إلى محيطه من خلال مشاهداته، ومن خلال الأشخاص الذين يحتك بهم، وبخاصة والده ووالدته، فيحاول محاكاتهم وتقليد أفعالهم دون أن يميز هل هي صائبة أم خاطئة.
ولذا فعلى المربي في هذه المرحلة أن يهتم ويراقب كل ما يصدر عنه، لأن واقع الطفل كأن أمامه عدسة تراقب وتصور لتعيد ذات السلوك فيما بعد، وهذه فرصة لينتظم السلوك.
ومن المفيد في هذه المرحلة إتاحة الأدوات التي تهم الطفل كالصور والأسماء والتي يتعرف من خلالها على انتماءاته وتاريخه، فيمكن عرض صور أعلام ومعالم مدينته وما يرتبط بهويته الإسلامية، ويسمي له المربي اسمها، فيتعرف عليها ويرتبط بها. - في مرحلة المدرسة (الطفولة المتوسطة):
- يتأثر الطفل كذلك بمحيطه، وبخاصة المدرسي، فيرتبط بالمعلمين والمربين تمامًا كما كان يرتبط بالجد والجدة في محيط أسرته.
- تمتلئ ذاكرته بمخزون خاص من القصص والحكايات والمواقف والعادات الحميدة.
- تكون الفرصة متاحة للطفل أن يطلع على ما يغذي فكره، ويهذب أخلاقه.
- ينصت الطفل ويتعلم في سير الأنبياء والصحابة والصالحين فتتحدد وجهته وأهدافه في الحياة.
- في مرحلة المراهقة:
- يرتبط الطفل بنشأة الحضارات وازدهارها، وقصص الفاتحين والعلماء وكل من تركوا أثرًا وغيّروا ووضعوا بصمة في التاريخ.
- يتعمق أكثر في التفاصيل، وتغدو مشاهدة الأفلام الوثائقية التي تتحدث تفصيلًا عن الماضي وحضارة الإسلام وبصمة المسلمين ذات تأثير عميق في نفسه.
- كلما انتقل الطفل إلى مرحلة جديدة تختلف مشاهداته، وتتنوع علاقاته ومعارفه ومعلوماته، فتترك المدرسة والمعلم تأثيرهم الإيجابي أو السلبي في نفسه، ويربط الطفل باستمرار بين هذا التأثير وبين أسرته، وتكثر تساؤلاته، ويبحث عن إجابات تعزز أو تغيّر قناعاته.
- عندما نتحدث مع الطفل أو المراهق عن حضارة فحاول أن تلقي الضوء على صناعها من قدوات الأمة، علماء ومصلحين ودعاة وفاتحين.
- كلما كانت البيئة المحيطة بالطفل صحية وتربوية، فإنه يتخلّق بأخلاقها، ويتجه إلى سلوكها، فعلى سبيل المثال عندما ينشأ الطفل في بيئة تتأسى بالنبي وتسير على خطاه وتؤدي السنن وتحسن الاقتداء، فتذكره في المواقف المختلفة، فإنه سيحب شخصية النبي ولن يجد من صعوبة أو حاجزاً يحول بينه وبين الاقتداء الحقيقي به، وذات الأمر فيما يتعلق بحياة الصحابة رضوان الله عليهم، أو تأثر الفتيات بحياة وسلوك أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين.
- كلما ضعف هذا الارتباط وغابت القدوات الصالحة فإن القدوات السيئة هي التي ستفرض نفسها، والبيئة التي تخلو من قدوات صالحة يصعب على الإنسان تمييز الخير والشّر وهذا أخطر ما يتعرض له الإنسان، حيث لا يوجد نورٌ يضيئ هذه الحياة أو يوجه السلوك أو يجيب على التساؤلات.
أساليب ووسائل عملية لربط الطفل بقدوات الأمة:
- تحدّث عنهم: فإن في تذكّر سير القدوات والحديث عنهم ما يربط الطفل نفسيًا وعاطفيًا بهؤلاء القدوات، فيسعى أن يتأسى ويقتدي، لأن الإنسان قد جُبل على فعل ما يحب، فإن تكرار الحديث عن السير الحسنة من عوامل دفع الطفل أن يسير على ذات الخطى.
- استحضر سيرتهم في المواقف المناسبة: فالحياة مليئة بالمواقف التي تستدعي تذكر قصة أو موقف جاد ومؤثر قام به أحد هؤلاء القدوات فمن المهم الحديث والتركيز على هذا الجانب.
- أخبر طفلك أن القدوات يعيشون حولنا: قد يكون منهم معلم المدرسة، وسائق الحافلة، وبائع الحلوى، وشرطي المرور، وكل شخص يقوم بدوره الصحيح ويساهم في الخير والنفع والصلاح هو قدوة يجب أن نقُدّرها ونحترمها ونتحدث عنها كي ننشر هذا الخير.
- أخبر طفلك أن القدوات بشر، ومن طبيعة البشر الخطأ، فلا يظن بوجود المثالية المطلقة، وتتحطم صورة القدوة لديه إن بدر منه خطأ ما، ولكن علِّمه أن القدوة إن بدر منه خطأ فلا يلبث يعتذر عنه ويتراجع، ويتابع وهو حريص ألا يكرره.
- امنح طفلك فرصة البحث: فمن خلال البحث في الكتب أو البحث الإلكتروني ما بين مقروء ومسموع ومنظور هناك كثير من القصص التي تستحق التوقف عندها وهناك شخصيات رائعة في كل أنحاء العالم وعلى مر العصور تستحق التحدث عنها، ومن الإيجابي تشجيع الطفل على البحث، ومتابعته ومساندته ومناقشته في كل ما وصل إليه.
- دع طفلك يتحدث: فعندما يلاحظ الطفل سلوكًا طيبًا في مجتمعه ومحيطه فإن من الجيد أن يذكره ويثني عليه أو يكتب عنه، أو يعبر بالرسم أو ما شاء من صنوف التعبير ليؤكد على أهمية هذا الأثر الطيب ويساهم في نشره، ومن الجيد تشجيعه عند كل خطوة يقوم بها.
- يمكن ربط الطفل بقصص تعبّر عن ماضيه، كقصص نشأة المدن وسير القدوات الحسنة، أو من خلال مشاهدات فيديوهات وأفلام تشرح أهمية المدن والأعلام والدول، وكيف ساهم القدوات في مختلف المجالات في نهوضها ورفعتها وازدهارها.
وأخيرًا فإن ربط الطفل بماضيه وتعريفه على قدوات قدّموا أعظم الأثر هو من الأعمال الجليلة التي تنعكس على التربية الصحيحة، وإن ربط الطفل أيضًا بقدوات في حاضره يُعلّمه أن الخير باق يتجدد ما دام الإسلام حيًا في النفوس، ولعل هذا الجيل يغدو قدوة صالحة لمن سيأتي بعده إن أحسنا الغرس.
المراجع:
1- القدوة وأثرها في الدعوة إلى الله، د. إسماعيل محمد.
2- القدوة الحسنة وأثرها في بناء الجيل، علي نايف الشحود.
3- منهج صناعة القدوة في الشريعة الإسلامية، محمد علي النجار.