لأن أعمارنا قصيرة، عَلَّمَنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عبادات يتجدد بها أجرنا وثوابنا بعد انقطاع ذكرنا وموتنا.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له“
ومصطلح “الولد الصالح“ ليس قاصرًا على الأولاد دون البنات، فقد ذكر الشيخ عبد المحسن العباد في معناها، أنه لا فارق (سواء كان ولده من صلبه المباشر أو ممن هو من نسله، وسواء كان من أبنائه أو من بناته؛ لأن هؤلاء كلهم أولاد له، وكلهم أبناء له، القريب والبعيد وإن نزل، ابن الابن وإن نزل، كما في الفرائض، إذ كلهم يقال لهم: أبناء، فأولاد البنين وأولاد البنات يعتبرون أولادًا للميت، فإذا دعوا له بدعاء؛ فإن ذلك ينفعه).
أولادنا إذن امتداد لأعمارنا، واستدامة لعملنا، ولكن الناظر في حياة كثير من الأسر المسلمة يرى الأعمار تضيع في ملاحقة الرزق؛ ليضمن الآباء لأولادهم الطعام والكسوة والتعليم الذي يسعون إلى أن يكون الأبناء فيه مُميَّزين عن أقرانهم، بينما علاقتنا بأولادنا يشكلها القلق والتوتر والضغط الدائم. والحديث الشريف رغم أن معنى الولد فيه لم يقتصر على الولد الصلبي المباشر، إلا أنه حَدَّد هذا الولد بأنه: “صَالِحٌ يَدْعُو له“.
وهنا يطرق أذهاننا سؤال: كيف نصل لـــ (ولد صالح يدعو له)؟ كيف نستغل أعمارنا مع أبنائنا ليكون الواحد منهم ولدًا صالحًا؟ كيف نرتب أولوياتنا في التربية ليكون هدفنا “ولد صَالِح يَدْعُو له“؟
والجواب في شِقَّيِ العبارة: (ولد صالح)، و(يدعو له).
والصلاح هنا هو الإيمان؛ أي: ولد مؤمن مستقيم على طاعة الله؛ ولتحقيق ذلك نحتاج أن نراعي في تربية أولادنا ما يلي:
أولًا: غرس العقيدة الصحيحة
ليكون طفلك صالحًا يجب أن تبني فيه بناء قويًّا من العقيدة الصحيحة؛ فيتعرف إلى الله – عز وجل – وأسمائه وصفاته، ويُعظِّم أمره ونهيه، ويُوقِّر رسوله – صلى الله عليه وسلم –، ويعرف حقه.
ولن يستطيع المربي أن يبني في قلب ابنه عقيدة صحيحة قبل أن يبنيها في قلبه هو، فلن تستطيع أن تغرس في ابنك ما تجهله، كما يحتاج المربي في غرسه العقيدة الصحيحة للتسلح بالاستعانة بالله، والدعاء الصادق المخلص.
وغرس العقيدة يبدأ قبل الميلاد، فنقرأ له القرآن الكريم وهو بَعدُ جنين؛ ليطرق سمعَه كلامُ الله – عز وجل –، وعند ميلاده نُعوِّد أذنيه على سماع الأذكار الموظَّفة؛ مثل: أذكار الطعام، والنوم، وأذكار الصباح والمساء، فتُكرِّر الأم: (اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار)، وتُسمِعه عند استيقاظه: (أصبحنا وأصبح الملك لله)، وتُكرِّر عليه كلمة التوحيد وهي تهدهده في مهده، تتغنى له بها؛ ليكون توحيد الله – عز وجل – أول ما يحفظ.
وعندما يكبر الرضيع، يمكن أن نلجأ لاستخدام القصص كأداة لغرس العقيدة، وخير القصص قصص القرآن الكريم؛ مثل: قصص الحيوان في القرآن، وقصص الأنبياء، فهي خير مصدر يتعلم منه الطفل التوحيد، ويعرف أن من أطاع الله فله الجنة، ومن عصاه فله العقاب في الدنيا والآخرة، ويتعرف إلى أسماء أنبياء الله، ويعاين جهادهم مع قومهم، ويُفضَّل أن تكون القصة على لسان الحيوان الذي ذُكِر فيها، أو يشار له كبطل للقصة، ولا مانع من استخدام مُجسَّم له؛ كناقة صالح، وهدهد سليمان، وحوت يونس رضي الله عنهم جميعًا.
كما يمكن استخدام الأناشيد البسيطة التي يحب الأطفال تكرار عباراتها، ويتشربون معانيها دون كثير جهد، فنغنيها معه وقت لعبه، وفي السيارة.
ومع نمو الطفل، يكون للمجتمع: المسجد، والروضة، ثم المدرسة، دور هام في عملية التربية، وعلى الوالدين حُسْن اختيار المحضن التربوي الذي يساعدهما على أن يكون ابنهما ولدًا صالحًا؛ فالمحضن التربوي يُيسِّر على الوالدين انتقاء صحبةٍ لأولادهما، تتشابه أهداف التربية في أُسَرِها مع أهداف أسرتنا، ما يُسهِّل تناغم الأولاد مع أطفال يشبهونهم.
ثانيًا: تدريبهم على العبادات والطاعات
ويبدأ ذلك قبل سن المدرسة، حيث نساعد الطفل على استخدام الأذكار الموظفة التي طالما كررناها على مسامعه، فنذكره بها بلطف، ونشجعه إذا ما تذكرها، و نشرح له معناها.
وفي سن الثالثة: يبدأ الأطفال بمحاكاة حركات الكبار، فيُسمَح لهم بتقليد حركات الصلاة دون مطالبتهم بطهارة، أو ستر عورة؛ لتشجيعهم على الصلاة.
كما يمكن اصطحابهم للمسجد في حال تَأكَّدْنا من حفاظهم على طهارتهم، وعدم إشغال المصلين، خاصة في صلاة الجماعة.
ويستمر حثهم على الصلاة، خاصة مع وصولهم لسن السابعة، سن التدريب على الصلاة.
ويُفضَّل أن نشجع الأطفال على القيام بسائر أعمال البر، ومشاركة الأسرة فيها؛ مثل توزيع الصدقات، أو المشاركة في التخطيط لها، فيسأل الوالد ولده عن رأيه: هل نضع صدقتنا هذا الأسبوع في المسجد أم في مستشفى؟ ونطلب مشاركته في تعبئة الصدقات وتغليفها.
كما نعلمه البر والصلة؛ فزيارة الأجداد والأقارب طاعة لله، وليست مجرد (فسحة)، بل هي طاعة نبتغي بها وجه الله.
ثالثًا: صالح مُصلِح
تدريب الطفل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غاية الأهمية، حيث إنه تطبيق لأمر الله – عز وجل – لنكون: “خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ“، كما أنه وسيلة ليكون الطفل صالحًا مصلحًا، مؤثرًا في مجتمعه الصغير، وهو أيضًا وسيلة تُثبِّت المسلم وتعينه على البدء بنفسه أولًا.
تدريبهم على ذلك يتضمن عدة أمور:
- أن يتعلم أن كل ابن آدم خطاء، وأن المعصوم من عصمه الله، فلا يظن أنه معصوم، ويعرف أنه صاحب معصية، يحتاج لمعونة الله في تركها، ويحتاج للاستغفار. يقول تعالى: “… كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ“.
- ألا يحتقر العاصي؛ بل يشفق عليه، ويتمنى صادقًا هدايته
- أن يعرف أننا مأمورون بالأمر بالمعروف، تمامًا كما أننا مأمورون بالنهي عن المنكر، فلا يقتصر في نصيحته على النهي عن المنكر فقط.
- أن يتعلم الدليل على ما يَنصَح به؛ فيحفظ الآية والحديث من الوحي.
- أن يعرف أدب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعرف: كيف ينصح؟ ومتى ينصح؟ وكيف يخاطب من هو أكبر منه سنًّا؟ ويعرف كذلك أن الناس تستثقل النصح؛ فيرفق بهم.
الشق الثاني: يدعو له
تربية أبنائنا على الصلاح ليست الضامن الوحيد لدعائهم لنا بعد وفاتنا. فما الذي يدفع أبناءنا لتذكرنا في دعائهم غيرُ حق الوالدين والبر والصلة؟ أحسب أن إقامة علاقة طيبة تملؤها ذكريات سعيدة هي إجابة السؤال الذي طالما دار في ذهني، وهذا للأسف ما نغفل عنه كثيرًا، فنتذكر الخبز والسكن والكسوة، وننسى الكلمة الطيبة، ونتذكر تأمين مصاريف المدرسة ومصروفهم اليومي، وننسى النظرة الحانية.
الحوار الدائم المستمر يضمن للوالدين والأبناء علاقة طيبة، يقوم فيها الوالدان بدور الصديق الكبير، فينصح ويعين ويأمر وينهى، في نقاش يسعد به الأطفال، ويرتقبون حدوثه، ولا مانع من إقامة جلسة عائلية أسبوعية لمناقشة ما دار خلال الأسبوع ، وما أجمل أن تحوي هذه الجلسة قراءةَ قصةٍ، أو تفسيرًا لآيات من القرآن، أو شرحًا لحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وفي هذه الجلسة يتعلم الأطفال مهارات الاستماع والإنصات، ويطبقون آليات التفكير الناقد، ويكتسبون الخبرة من الكبار.
وفي سياق التعليم الأكاديمي: يجب أن نولي اهتمامًا بالغًا بإكسابهم المهارات الاجتماعية، ومهارات الحياة العملية؛ مثل: دراسة اللغات، وعلوم الحاسب الآلي، والبرمجة، ودراسة علوم التسويق والتجارة، ولو أمكن إكسابه حرفة يدوية مع مراعاة مهاراته الشخصية، ومتطلبات المجتمع الذي يعيش فيه.
وأخيرًا: أُذكِّر نفسي وإياكم بالصبر، فالصبر مع الأبناء وعليهم هام جدًّا في المحافظة على علاقة وثيقة بهم؛ الصبر على إمكانياتهم المحدودة في مراحل النمو الأولى، فلا نضجر ونصرخ لأجل كوب سقط أو طعام تناثر؛ بل نتفهم أن أيديهم الصغيرة لم تَقْوَ على حمل الكوب أو الطبق، فنسمعهم بصوت مرتفع: (قَدَّر الله وما شاء فعل، انتبه في المرات القادمة).
ثم الصبر في تعليمهم ما ينفعهم بعد مرحلة المدرسة، فلا يفسد طيب علاقتكم جدول الضرب، أو مسألة القسمة المطولة.
ولا ضامن لأن يكون أبناؤنا أولادًا صالحين يدعون لنا سوى الدعاء والابتهال لله – عز وجل – أن يصلحهم، ويصنعهم على عينه، ويوفقنا في تربيتهم لما يرضيه، ويرزقنا برهم في حياتنا وبعد مماتنا.