
التدريب على إدارة المال منذ الطفولة
حتى وقت قريب، كانت التربية المالية للأولاد خارج حسابات المربين إلا ما ندر منهم، وربما كان للفهم المغلوط عن التزهيد في الدنيا أثر في إهمال السعي الحثيث من أجل الكسب والقبول بالقليل، ونقل هذا التصور لأولاده، مما يستدعي مراجعة تصورنا عن المال أثناء سيرنا في طريق التربية المالية لأولادنا.
محتويات المقالة
أولا: تصورنا عن المال
- المال هو مال الله تعالى، ونحن مؤتمنون عليه ، قال تعالى : ...وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِیۤ ءَاتَاكُم [سورة النور: ٣٣]، واجبنا أن نكسبه كما أمر الله وننفقه كما أمر الله تعالى، قال رسول الله ﷺ: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه1أخرجه الترمذي، باب في القيامة (4/ 612)..
- المال هو وسيلة لإعمار الأرض، وضمان العيش الكريم بإذن الله، ومساعدة الآخرين ، قال الله تعالى : آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فالَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وأنْفَقُوا لَهم أجْرٌ كَبِيرٌ [سورة الحديد: ٧].
- المال هو عصب الحياة، وهو وسيلة لكسب العلم، وتطوير النفس.
لنضع باعتبارنا أن التربية المالية لا تنفك عن التربية الدينية، لأن الله تعالى هو من حدد لنا طرق الكسب المشروعة، وهو من وجهنا للمصارف المشروعة.
ثانيًا: وسائل الكسب المالي
مهم أن نعرّف أولادنا على الفرق بين الكسب الطيب والكسب الخبيث
الكسب الطيب:
هو ما وافق أمر الله تعالى وله عدة مصادر:
- عطية أو هدية : بالتأكيد فإن المصدر الأول الذي يستطيع الطفل من خلاله كسب المال هو الوالدين، من خلال إعطائه مصروفه الشخصي، وقد يحصل على هدايا ومكافآت في مناسبات عديدة.
كلما كبر الطفل كلما زادت طلباته، يمكننا حينها أن نحدثه عن الطريقة الثانية للكسب الحلال.
- عمل يده: عن أبي هريرة قال، قال رسول الله : لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً علَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ له مِن أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ2أخرجه البخاري (2347)..
نخبر الطفل أن بإمكانه الحصول على مال أكثر من خلال العمل بواجبات إضافية في المنزل، وهكذا ينقسم عمله إلى:
- واجبات أسرية يعملها كل من يعيش وينتمي للأسرة دون مقابل مادي.
- واجبات زائدة يمكن لمن يعملها أن يحصل على مقابل مادي، وتكون هذه الأعمال فرصة لتعليم الطفل بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بعقود العمل وضرورة توضيح كم الأجرة ومنع الجهالة والغرر.
نوجه الطفل من عمر عشر سنوات لاحتراف بعض المهن والعمل فيها أثناء العطل المدرسية إن أمكن، أو احتراف بعض الهوايات عن بعد كالتصميم والبرمجة والمونتاج، ونزرع في ذهنه أنها قد تكون مصدر كسب، وليست مجرد هواية.
الكسب الخبيث:
تتعدد مصادر الكسب الحرام:
- السرقة: في عمر أربع سنوات، ما تزال فكرة الملكية الشخصية غير ناضجة بشكل كاف عند الأطفال، وما يزال الطفل لا يعرف كيف يتحكم برغباته، لذا من الوارد أن يسرق، نستغل الموقف لنحدثه عن الكسب الحرام لكن دون وصمه بالسارق أو المبالغة بتخويفه.
- الغش: كأن يبيع لعبة لأخيه أو صديقه، رغم معرفته أنها مكسورة.
- الربا: سأقرضك خمس قطع نقدية بشرط أن تعيدها لي سبعة، يحصل كثيرًا أن نسمع مثل هذه العبارات بين أولادنا، لعدم معرفتهم أن هذا ربا.
- عدم رد الدين والقرض: كأن يستدين أو يقترض من أخوته أو أصدقائه، وهو ينوي ألا يعيده لهم، وقد يظن أن ذلك ذكاء منه.
من عمر ثماني سنوات تقريبًا يمكن أن نعلمه أحكام الدَيْن، مثل كتابة الدين، والتفريق بين الدين والهبة، والربا.
يمكن للوالدين أن يستدينوا من الطفل، أو يتعامل الإخوة فيما بينهم بالدين تحت مراقبة الأبوين أو بإرشادهما بغرض التدريب ، ثم يكتبوا الدين في ورقة: مبلغ الدين ومتى يعيدوه له ويعلموه الآية الكريمة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٨٢].
بالمقابل يفضل أن يرشدوا الطفل أن يشتري لهم ولو قطعة شوكولا من ماله، كي يعتاد بر والديه بماله، وحينها يفرق بين الدين والهدية.
أيضًا نشرح له عن الربا وأنه لا يجوز أن ندفع مالًا أكثر مما استدنا، ولا يجوز لمن يدين أن يطلب أكثر مما أدان.
ثالثًا: المصارف المالية
يمكن من عمر أربع سنوات أن تصطحب طفلك معك إلى البقالة، وبدلًا من أن تشتري له العصير وتعطيه إياه، اعطه نقوداً واطلب منه أن يعطيها للمحاسب بنفسه ويأخذ العصير، كي تتوضح لديه فكرة المصارف المالية.
تقسم المصارف إلى نفقات يومية، وادخار .
النفقات اليومية:
لابد من توجيه الطفل وتعليمه بعض المهارات :
التمييز بين القيمة والسعر : يمكننا تعليم أولادنا ذلك عمليًا عن طريق تخييرهم بين عبوتين مختلفتين بالحجم، الأولى نصف كيلو مثلًا وسعرها عشرة، الثانية كيلو وسعرها خمسة عشر
للوهلة الأولى قد يظن الطفل أن العبوة الثانية أغلى، حينها نعلمه أن يضع باعتباره: الحجم والوزن والجودة، وتاريخ الصلاحية للمواد التي قد تفسد، وبتلك الاعتبارات يظهر أن العبوة الثانية هي الأرخص.
التمييز بين الحاجة والرغبة : مهم جدًا أن نساعد أولادنا على التمييز بين الحاجات والرغبات، وهذا من جهته يقلل أيضًا من صراعنا المالي معهم من أجل شراء بعض ما يرغبون به.
- الحاجات : هي الأشياء التي لا يمكننا الاستغناء عنها مثل الأكل العادي، أو أن عدم وجودها قد يسبب صعوبات كبيرة مثل السيارة لبعض العائلات.
الحاجات ليست كلها بنفس الدرجة، قد يكون الطفل بحاجة فعلا لدفتر، لكن هناك دفتر يفي بالغرض وسعره متوسط، ودفتر آخر مزين وجميل وبسعر أعلى، في هذه الحالة يصبح الدفتر الأول حاجة والدفتر الثاني رغبة، نطبق عليه ما تعلمناه بأن نشتريه بعد تقدير حاجتنا ووجود مبلغ ادخار وإن كان بسيطًا.
والحاجات تختلف من عائلة لأخرى، ومن طفل لآخر، حيث يحتاج الابن الذي يلعب كرة قدم لحذاء رياضي، بينما أخاه الذي لا يلعب كرة قدم، لا يحتاج لذلك.
- الرغبات : هي الأشياء التي نود الحصول عليها، لكن يمكننا أن نستمر بالحياة بسهولة إن لم نحصل عليها، مثل الحلويات.
تدريب عملي : نلعب مع الطفل لعبة، نذكر له بعض الأشياء وعليه أن يصنفها حاجات أم رغبات؟ كي نتأكد من فهمه الصحيح لها، وبعد أن يتعلم الطفل الفرق بينهما نعلمه القاعدة المالية التالية: نشتري بالمال الحاجات أولًا، وندخر منه قليلًا، والذي يتبقى نشتري منه الرغبات.
للحاجات والرغبات أيضًا حدود؛ مهما كانت حالتنا المالية جيدة وممتازة، من المهم ألا نصل بها إلى حالة الإسراف والتبذير، لذا في كل تصرف مالي مع أولادنا لنسأل أنفسنا: ماذا أريد أن أعلم ابني من هذا التصرف؟
عندما أطلب منه أن يدخر من أجل شراء شيء يرغب به، فأنا أعلمه تأجيل الإشباع وضبط النفس.
عندما أمنعه أن يشتري ما لا يلزمه أو ما قد يضره، أو أن يسرف في الرغبات، حتى وإن كانت من مدخراته أو كسبه، فأنا أعلمه مبدأ عدم الإسراف والتبذير ، والابتعاد عما يضره .
تحديد الأولويات : قد تتزاحم الحاجات أحيانًا أو الرغبات، وفي مثل هذه الحالات ينفع تعليم طرق اتخاذ القرار وتحديد الأولويات: أي منها يمكن أن تؤجل شراءه وتكتفي بالاستعارة من أخيك مثلًا؟ أو تستمر في استخدام القديم؟
معرفة وجود أوقات في السنة، تقدم فيها المتاجر خصومات: إذا رغب الطفل بشيء ما غالي الثمن، أو احتاج شيئًا يمكن تأجيله، نخبره أن ينتظر حتى تقدم المتاجر خصومات، وربما نشرح له ذلك عمليًا بأن نقص عليه قصة شراء أحد الأشياء، وكيف أننا اشتريناه بسعر مخفّض، بينما سعره الأصلي أغلى.
الحذر من العروض : الخصومات والعروض هي سيف ذو حدين، تحب النفس البشرية كلمة (عرض خاص) ولذلك قد نشتري أشياء لسنا بحاجة فعلية لها، نوجه طفلنا إلى التأكد من حاجته للشيء قبل شرائه، ويتم ذلك عن طريق نقاشه: إذا اشتريته ماذا تستفيد؟ إذا لم تشتره ماذا ستخسر؟ كم مرة ستستخدمه؟ هل يمكن استبداله بشيء آخر؟
الادخار :
يمكن للأطفال من سن خمس سنوات أن يفهموا فكرة الادخار فقد أجرت دراسة في جامعة كانساس على الأطفال، إذ خيروهم بين أن يأخذوا قطعة حلوى الآن أم يدخروها ليأخذوا قطعتين في المقابل ولكن في وقت لاحق. وأظهرت النتائج أن عددا كبيرا من الأطفال اختاروا القطعتين.
خطوات تساعد الأطفال على الادخار :
- وجود هدف محدد للادخار، مثل شراء لعبة، يساعد على الادخار أكثر من الادخار بلا هدف، الأطفال الصغار يصعب عليهم الادخار لوقت طويل، لذا من الأفضل تدريبهم على الادخار لفترات قصيرة، ليومين أو بضعة أيام.
- وضع النقود في حصالة مخصوصة، وإبعادها عن عيون الطفل، يساعد أكثر من ترك النقود بلا مكان محدد.
- وجود حافز للطفل كي يدخر، كأن تتفق الأم مع الطفل أن تساعده في بقية سعر اللعبة إن ادخر نصف السعر. ولننتبه أن بعض الأطفال يميلون للتطرف في تصرفاتهم، لأننا إذا ما علمناهم الادخار، أمسكوا أيديهم وأصبحوا بخلاء، فلنعلمهم الآية الكريمة وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء: ٢٩].
من الادخار الدنيوي، يمكننا الدخول للحديث مع الأطفال عن الادخار الأخروي، بمعنى الإنفاق في سبيل الله
الادخار الأخروي : نذكرهم بقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [سورة البقرة: ٢٦١]، وأن ما نعطيه للفقراء، هو رزقهم من الله، لكن وضعه الله أمانة عندنا، وسيجزينا سبحانه على أداء هذه الأمانة.
ونوجههم إلى أنواع الإنفاق في سبيل الله:
- إعطاء الفقراء والمساكين: يمكن تخصيص حصالة خاصة يدخر فيها المال، ولو كان مبلغًا بسيطا كل مرة، وعندما يصبح المبلغ معقولًا، يعطونه لمن يستحقه.
- شراء هدايا لوالدينا ولو كانت بمبلغ صغير جداً من البقالة، وهذا اسمه بر الوالدين.
- نتذكر إخوتنا ونشتري لهم بعض الأحيان حين نشتري لأنفسنا.
- يساهموا في مشاريع بناء مساجد أو تبرعات لجمعيات خيرية.
وهكذا نضع حجر أساس التربية المالية للأبناء، وهم يبنون عليهم مستقبلا ما سيتعلمونه لاحقًا3المراجع: كتاب: Get a Financial Life:Personal Finance Your Twenties and Thirties للمؤلف: بيت كوبلينر كتاب الأب الغني والأب الفقير: روبرت كيوساكى وشارون ليكتر (دراسة في جامعة كامبريدج) the Money Advice Service: Habit Formation and Learning in Young Children (Dr. David Whitebread and Dr. Sue Bingham University of Cambridge)..