نصائحُ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لتربية الأطفال
جاء عن أبي الدرداء : “البِرُّ لا يَبلى والإثمُ لا يُنسى، والديّانُ لا ينام، فكنْ كما شئت، كما تُدينُ تدان” فمن رعى وتعِبَ وسَهِرَ من أجل تربية أولاده حتى كبروا فإنه سيحظى بتوقيرهم ودلالِهم له حتى يغادر هذه الدنيا، والعكس أيضاً، فمن ضيّع ولم يؤثِر على نفسه من أجل أبنائه، بل تركهم عُرضةَ رياح هائجة تأتي على براعمهم الغضّة فتدمرها، فإنه سيحصد ما زرع، ولن يجني من أولادِه إلا العداوةَ، أو على الأقل التجاهل والهجران.
هذا من حيث إنّ الجزاء من جنس العمل، أما من الناحية الشرعية فإن هناك واجبٌ عظيم مناطٌ بالوالدين لتربية أولادهم، وكذلك جائزة سَنيّة على هذا الواجب، أما الواجب فإنه يُقرأ في الحديث: إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه، أحفِظ ذلك أم ضيَّع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته1صحيح ابن حبان.. وفي رواية: ما منْ عبدٍ يسترعيه اللهُ رعيةً، يموتُ يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلا حرّم اللهُ عليه الجنة2متفق عليه..
وأما عن هذه الجائزة، فإنّ في صلاحِ الأولاد رصيدٌ يزيدُ في الحسنات إلى ما بعد الموت، كما جاء في الصحيح: إذا مات الإنسانُ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ٍينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له.
نصائح نبوية لتربية الأطفال:
من الأهمية أن يقطفَ المربّون -وهم يعانون عوائقَ كثيرة في درب تربية النّشء- من دوحةِ رسول الله ، وأنّ يتمثلون نصائحه وتوصياته ويشكرون له، ويصلون عليه ويسلمون تسليمًا.
وإنني في هذا البحث القصير عاجزٌ عن قطافِ النصائح النبوية في مجال تربية الأولاد، لكنني أسدد وأقاربُ، وأختصر وأقفُ على أهم تلك النصائح؛ ومنها:
- التغاضي عن بعض الأخطاء: من المعروف أن الأطفال كثيرو الأخطاء بحكمِ صِغَر سنّهم وعدم نضوجهم وإدراكهم للحقائق، وإنّ متابعتَهم على كل خطأ وتوبيخهم عليه لأمرٌ متعبٌ للولي وللطفل معاً، لذا يُنصح بأنْ يتجاهل المربّي كثيراً من الأخطاء، وخاصةً تلك التي لا تؤثر على أخلاقه وقِيَمه.
وسبب هذه النصيحة أنّ كثرة الملامة والتوبيخ ترسّخُ مع مرور الوقت تبّلُّداً في مشاعر الطفل وبطء استجابة، ولنا في مبدأ التغاضي تعاملُ رسول الله مع أنس ، وقد خدمَه وهو غلام مدةَ عشر سنين، يقول أنس مجلياً عن حقيقة هذا المبدأ: “فخدمتُه في السفر والحَضر؛ فما قال لي لشيء صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هذا هكذا؟”3البخاري ومسلم..
وما أكثَرَ وقوعَ الأخطاء في مدة غير قصيرة، ممتدة من عشر سنين إلى عشرين، وفي مرحلتين عمريتين، قبل البلوغ وبعده!
- الغضب يُفسد التربية: إن الجهدَ الذي يُبذل في بناء بيت يساوي أضعافَ الجهد الذي يبُذل لهدمه، وكذا الإنسان؛ فإنّ طريقَ تربيته وَعْرةٌ وشاقّة، لكن إفسادها من السهولة بمكان، وإن الغضب وما ينتج عنه من صراخ وشتمٍ وتعيير، وربما ضربٍ أو تكسير يفسد تربية الأطفال أيّما إفساد.لذلك كان رسولُ الله يقول: ليس الشديدُ بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسَه عند الغضب4متفق عليه.. وكان يقول أيضاً: لا يَحكُمْ أحَدٌ بين اثنين وهو غضبان5البخاري ومسلم.. ولو قِسنا القضاء على التربية، فإن على المربّي أن يملكَ نفسَه ولسانَه عند الغضب وإلا هدم في لحظةٍ ما بناه في سنوات.
- الضرب: لعل الظروف التي كان يعيشها الأطفال في القرون الماضية تتباين أشدَ التباين مع ظروفنا اليوم، قديماً كان الطفل إذا ضُرب يجلس يبكي ويؤنب نفسه، أما اليوم فما أكثرَ الأحضانَ الخبيثة، وما أكثر الذين يتلقفونه ويحرضونه على أهله. علماً أنّ الضربَ في حدّه الأدنى غير المبرّح وضمن شروط خاصة، قال به جملة من علماء التربية، أمثال الغزالي والنووي والعز بن عبد السلام، وكثير يضيق حصرهم رحمهم الله.وباب هذا النوع من التأديب هو قول رسول الله : مُروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناءُ سبعٍ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع 6رواه أحمد وأبو داود..
غير أن جدوى عدم الضرب أولى وأكثر أثرًا في زماننا هذا من جدوى الضرب حتى في حدوده المشروطة، هذا إذا استثنينا حالة واحدة وهي جوازه في التدرّج لإقامة الصلاة، لأنّ هذه الشعيرة هي عماد الدين وركنه. ويبقى أن لكل حالة استثناءاتها الخاصة بها.ويعود السبب إلى أنّ الخوف الذي يولّده الضرب لن يدوم، لأن الطفل بعد أن يكبرَ لن يخاف والديه، بل قد يحقد عليهما، وأن المطلوب في التربية هو الحب لا الضرب، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنها قالت: “ما ضرب رسول الله شيئاً قطُّ بيده، ولا امرأةً، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطُّ فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيءٌ من محارم الله، فينتقم لله تعالى”7رواه مسلم..
والمطلوب الرفقُ بدلاً من الضرب، وفي حديث السيدة عائشة -رضي الله عنهاـ قالت: قَالَ النبيَّ : إنَّ الرفق لا يكون في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا يُنزعَ من شيءٍ إلَّا شانَه8صحيح مسلم..
ويستعاض عن الضرب بالحزم أحياناً؛ وأوجه الحزم متعددة وطرائقها كثيرة؛ يختار الوالدان منها ما يتناسب وشخصية ابنهم؛ ولا يسرفوا في ذلك حتى لا تصطبغ العلاقة كلها بصبغة الخوف والشدة والعقاب فتفسد الود بينهم وبين ولدهم.. فيبقى اللين هو الأصل والشدة والحزم هو الاستثناء.
- الصحبة الصالحة: لا يخفى على أحدٍ ما للصاحب من دور وتأثير في نفس صاحبه، وإن أكثر العادات الحسنة أو السيئة التي تتلبس بالأطفال جاءت من أصحابهم، لذلك لابد من تحفيز الأبناء على اختيار أصدقاء جيّدين، وما أحكمَ قولَ رسول الله : إنما مثلُ الجليس الصالح وجليس السوء: كحاملِ المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذِيَك، وإما أنْ تبتاعَ منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة9متفق عليه.. وأرى أن يتخيّر الأهل أصدقاءَهم بحذر، ولا بأس بمشاركة الطفل في اختيار اصدقائه، وكذلك يتخيّرون المدرسة التي سيدرس فيها أبناؤهم؛ لأن الطفل يبدأ في صحبته بأبناء أصدقاء أبيه وأمه، وكذلك بزملائه في المدرسة.
- ضمُّ الأطفال والدعاء لهم: يرى علماء النفس والتربية ضرورة ضمّ الطفل إلى الصدر مرة واحدة على الأقل كل يوم، واللمس هو واحد من لغات الحب الخمسة، وعلى الطفل أن يُلمس ويحضن عدّة مرات كل يوم.
في دراسة أجراها باحثون من قسم علم النفس بجامعة (ويسكونسن ماديسون) بالولايات المتحدة، سنة 2012، على أطفال لمدة 10 أسابيع، أنّ لمسة الحنان والرعاية مثل العناق اللطيف هي التي يمكن أن توفر نوعاً من التحفيز الإيجابي الذي يحتاجه الدماغ لينمو بشكل صحي.ولنا في حنو رسول الله على سبطيه الحسن والحسين رضي الله عنهما وحمله لهما واحتضانهما ما يدعم هذه التوجّه.
أمّا الدعاء لهم على مسامعهم: فيه خيرٌ من جهتين، الأولى: تنبيه ِالطفل بأنّ المعطي والقادر ليس الأب أو الأم بل هو الله تعالى، وهذا ترسيخٌ للعقيدة في نفسه. والجهة الثانية: تعريفه بالطريق التي سيسلكها والصورة المستقبلية التي يطمح والداه لتحقيقها فيه، فلو دعتْ له أمّه أن يكونَ حافظاً للقرآن مثلا، فإنه سيتهيّأ للسير في طريق الحفّاظ، وقِس على ذلك.وقد تجلى هذا الموقف المؤثر من حيث ضمّ الغلام والدعاء له فيما يرويه ابن عباس : ضمّني النبيُّ إلى صدرِه، وقال: اللهم فقّهُّ في الدِّين، وعلِّمه التأويل10البخاري ومسلم..
- سؤال الأطفال عن الأمور التي يهتمون بها: عندما تسأل الكبير عن أمرٍ يهمّه، يدرك أنك تطمئن عليه، لكن عندما تسأل الطفل الذي لم يبلغ بعد عن أمرٍ يشغله أو يحبّه فإنه يظن أنّك تشاركه فيه، لذا يستحسن أن يشعر الطفل بأنَّ ما يشغله من لهوٍ مباح هو مثار اهتمام من والديه، ولعل سؤال رسول الله الطفلَ عن عصفورة خيرُ دليل على هذه اللفتة التربوية. ينقل أنس هذا المشهد قائلا: كان لي أخ ٌيقال له: أبو عمير، كان فطيماً، فكان إذا جاء رسولُ الله فرآه قال: أبا عمير! ما فعل النُّغير؟ 11البخاري ومسلم..
- التربية الجنسية منذ الصغر: ويشمل سترَ العورات ولباس الحشمة، والتفريق في المضاجع لحديث رسول الله : وفرّقوا بينهم في المضاجع 12أبو داود في سننه.، وعدم إبداء أي مظاهر جنسية بين الوالدين أمام الأولاد. كذلك العمل على تجنيب الأطفال المشاهد الجنسية على الشاشات -وما أكثرها اليوم_ واستبدالها بما ينمّي قيمَهم وأخلاقهم الحسنة ويتوافق مع أعمارهم، ومرد ذلك الفتنة الحاصلة بين الرجل والمرأة والتي قال فيها رسول الله كما جاء في الصحيح: ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرِّجال مِن النِّساء.
وغاية الغريزة هي التحصن في الزواج، أما في عدا ذلك، وبالنسبة للأطفال فهي ضرر كبير تلعب فيه الصورة تأثيرا كبيرا في ذهن المتلقي.
- القوة البدنية: يعلن هذا الدين أن ذلّ العبد لا يكون إلا لله العزيز الحكيم، ومن المحزن أن ينشّأ الطفل جباناً ضعيفاً، تسلبُ حقوقَه وتؤخذ أغراضه ولا يدافع عن نفسه، لذا ينبغي للأولياء تخيّر نَوادٍ ملائمة لتقوية جسم الطفل وتأهيله للدفاع عن نفسه، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة : المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ. احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعجزْ. …. الحديث13رواه مسلم. ويتبع ذلك ما يلزمه من توسّط في المأكل وتقشف في بعض الأحيان.
- تربيته على الصدقة: من الحَسَن أن يتعوّد الطفل على التصدّق، وأن يشرح الوالدان قيمة هذا البِرّ، وأن الصدقة تطفئ غضب الله تعالى، وسببٌ لتداوي الأمراض، وأنها تطهير للنفس ومرضاة للرب، وأنّ بها يزداد المال ويكثر الخير.ومن الجيد أن يعوّد الطفل على التصدق من ماله، أي من (المصروف اليومي أو الأسبوعي) الذي يُمنح له. وذلك لتنكسر شوكة الأثرة في نفسه. كذلك في تصدّق الطفل تعوّد على العطاء لا الأخذ، والفاعلية والإيجابية لا السلبية والسرور بمشاعر صاحب اليد العليا الذي هو خير من اليد السفلى. كما ورد في الصحيح.