الأجهزة الرقمية وأثرها على النمو الطبيعي للطفل

لقد ازدادت اليوم أهمية الأجهزة الرقمية أكثر من أي وقتٍ مضى وازدادت الحاجة إليها، وأصبحت وسيلةً يصعب الاستغناء عنها، حيث ساهمت بتطور وسائل التعليم والترفيه، ولا ننكر أنها سهّلت التواصل وقرّبت المسافات بيننا وبين الناس حول العالم، لكنّها في النهاية سلاحٌ ذو حدّين، وحين يتعلق الأمر بأطفالنا فلا بد أن نكون حريصين على كلّ ما ينفعهم، يقول رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم -: «كلّكم راعٍ، وكلّلكم مسؤول عن رعيّته» (أخرجه البخاري ومسلم).

ولعل من أبرز المشاكل التي تواجه اليوم معظم الآباء والمربين تأثيرَ الأجهزة الرقمية والهواتف الذكية على أطفالهم بمختلف الأعمار، حيث لا يخفى على أحدٍ تأثيراتها النفسية والجسدية التي تسرقهم ببطء، لذا لا بد من أن يكونوا مدركين لانعكاسها على نمو أطفالهم وتطور شخصيتهم، متفهمين لدورهم في تحقيق التوازن لنمو طفلٍ سويٍّ وواعٍ.

سنستعرض في البداية أهم التأثيرات السلبية على الطفل:

التأثير على التطور الروحي والعقلي

  • تسبّب الأجهزة الرقمية تراجعًا في النمو المعرفي والروح الإبداعية، فالطفل يجد الأجوبة جاهزةً بكبسة زر دون بذل أي مجهود.
  • كما تقلل من مهارات التخيّل والتصوّر الذهني لدى الطفل بوجود الصور ماثلةً أمامه دون الحاجة لتخيّلها.
  • تؤثر على تأخر النطق واللغة التعبيرية لدى الطفل، ومن ثَمَّ تسبب تأخرًا في النمو المعرفي الإدراكي وقدرات التعلم كالقراءة والكتابة ويترافق استخدامها المفرط مع قدرات أقل للذاكرة.

في دراسة نشرتها دورية “جاما سيكياتري“ (JAMA Psychiatry) مؤخرًا لمعرفة مدى الارتباط بين الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات واحتمالات تعرُّضهم لمشكلات سلوكية.

تبين أن “وسائط الشاشة قد تعوق أيضًا استراتيجيات التنظيم الذاتي للتعلم، (وهي عملية نشطة يكون فيها المتعلم مشاركًا نشطًا في عملية تعلُّمه بحيث يبحث ويحاور ويناقش وفق ميوله واهتماماته)، وتزيد مستويات شعور الطفل بالإثارة بسبب التأثيرات الصوتية المرئية السريعة والمكثفة، والتي قد يصاحبها عدم الانتباه والسلوك العدواني“.

الأثر النفسي والاجتماعي

  • يتأثر التفاعل الاجتماعي للطفل فيصبح أكثر ميلًا إلى العزلة والانزواء بالإضافة إلى فرط نشاط الحركات اللاإرادية والتقلّبات المزاجية فضلًا عن العصبيّة المفرطة.
  • يسبّب التعرض لمستويات عالية من الأضواء والأصوات باستمرار إلى نقص في التركيز والتفاعل عند الطفل، حيث أوضحت دراسةُ أُجريت في جامعة لايبزغ الألمانية سنة 2018 التأثير المهم للأجهزة الرقمية على الأطفال (لا سيما بعمر الثانية إلى السادسة)، وما تسبّبه من فرط نشاط الطفل وشعوره باللامبالاة تجاه ما يحدث حوله. (نشرت الدراسة في المجلة الدولية للأبحاث البيئية والصحة العامة
    “International Journal of Environmental Research and Public Health”)

تأثيراتها على الصحة والجسد

  • إن الجلوس لساعات طويلة وراء الشاشات وألعاب الفيديو يقلّل من النشاط البدني والحركي الضروري لتطور الطفل ونموّه السليم ويسبب عزوفه عن ممارسة الرياضة.
  • كما إن الجلوس بطريقةٍ خاطئةٍ خلال فتراتٍ طويلة خلف الشاشات يسبّب آلامًا عضليةً ومفصليةً، ويؤثر على العنق واستقامة العمود الفقري، فضلًا عن المشاكل البصرية التي تسببها، من جفاف العين وضعفٍ في الرؤية.
  • تؤثّر أضواء الشاشات الرقمية على جودة النوم وتسبّب الأرق واضطرابات النوم فلا يحصل الطفل على قدرٍ كافٍ من النوم.

السلوك الإدماني

يظهر بشكلٍ واضحٍ ومتزايدٍ خاصةً عند المراهقين، فينجذب المراهق للشاشات مثل المغناطيس مأخوذًا بما يتلقاه من التفاعل والتعليقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، وهذا السلوك الإدماني هنا يعمل عبر نظام المكافئات، حيث يبقي الطفل متحفزًا طيلة الوقت لهذه المكافئة (التفاعلات هنا)، ويؤدي من ثَمَّ إلى هذا السلوك القهري الذي يدفعه لتكرار استخدام هذه المنصات والمواقع؛ لما تمنحه من مشاعر الرضا عن الذات دون مجهودٍ يذكر فيرغب بالمزيد.

والجدير بالذكر أيضًا، تأثير ألعاب الفيديو والإثارة التي لا تخلو من العنف على نفسية الطفل وتركيزه، فقد صنفت منظمة الصحة العالمية سنة 2018 إدمان ألعاب الفيديو العنيفة كاضطرابٍ مرضي (حين يؤثر غياب اللعب لدى الطفل على حياته الاجتماعية والأسرية وأدائه الدراسي لمدة عامٍ على الأقل).

الأهل هم القدوة وصانعو التغيير في حياة أطفالهم، فالطفل يتأثّر بما يراه لدى الأهل، ومن ثَمَّ تقع على عاتقهم مسؤولية وضع قواعد للاستخدام السليم للأجهزة الرقمية.

وسنقترح هنا بعض الحلول لعلها تساعد في تلافي التعرض لهذه التأثيرات السلبية والتقليل من الأضرار المحتملة:

يُمضي الأطفال وقتًا طويلًا أمام الشاشات أكثر من الحد الموصى به، لذا من المهم تحديد ساعات استخدامهم للأجهزة الرقمية تحت إشراف الأهل، حيث توصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بما يلي:

ألا يكون هنالك وقتٌ للجلوس أمام الشاشة عند الرضع وحتى السنة الثالثة من العمر.
ألا يزيد الوقت عن ساعةٍ واحدةٍ في اليوم عند الأطفال قبل سن المدرسة بإشراف الأهل؛ لمساعدتهم على فهم ما يرونه وتحديد ما يناسب عمرهم.
يجب على الآباء وضع حدٍ ووقتٍ معيّنٍ لدى الأطفال من عمر السابعة فما فوق (ويفضّل ألا يتجاوز ساعتين يوميًّا).

  • يمكننا اختيار ما يناسب الأطفال من برامج تعليميةٍ تعتمد على الأسلوب التفاعلي والتعلم عبر اللعب، مما يجعلهم يمضون وقتًا مفيدًا وممتعًا في آنٍ واحد.
  • يساعد إيجاد البدائل الممتعة في مختلف المجالات على التقليل من ساعات الاستخدام للأجهزة الرقمية كالقيام بنشاطاتٍ حركيةٍ وممارسة الرياضة أو المشي في الهواء الطلق، مما يحفّز النشاط البدنيّ والنمو السليم.
  • كما يمكن تنمية الجانب الثقافي للطفل وتعويده على المطالعة باقتناء الكتب التي تستهويه وجعل القراءة عادةً يوميةً تنمي عقله وفكره.
  • يساعد تكليف الطفل –بما يتناسب مع عمره– بأنشطةٍ معينةٍ كالمساعدة في أعباء المنزل في تنمية ثقة الطفل بنفسه، والشعور بالرضا عن ذاته وتحفيز حسّ المسؤولية لديه، وهنا نستذكر مقولة: “طوّروا استعدادات أبنائكم، وكلفوهم بما ينمّي شخصياتهم من أعمال، ولا تؤنبوا أحدًا على اجتهادٍ وجدتموه خاطئًا؛ بل علّموه ودرّبوه“ (عابدة العظم من كتاب: هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي).
  • يمكن أيضًا القيام بألعابٍ جماعيةٍ قائمة على الأسئلة والحوارات يشارك فيها جميع أفراد العائلة، وهذا يساعد الطفل على الانخراط في مجتمعه وتنمية الروح الاجتماعية لديه والتواصل مع الآخر، بالإضافة إلى تنمية مداركه وتوسيع آفاقه.
  • أن ننمّي الجانب الروحي والتأملي لديه عبر تأمل الكون والتفكّر في آياته عبر نشاطٍ بسيطٍ (تأمل النجوم والسماء مثلًا).
  • أن نساعد الطفل على تطوير مَلكة الحفظ لديه، فالطفل في بداية تعلّمه يكون أقدر على الحفظ، لذلك يمكن الاستفادة من ذلك بتعلّم لغاتٍ جديدة (يمكن أن تساعدنا الأجهزة الرقمية في ذلك)، بالإضافة إلى حفظ القرآن والأذكار، فالعلم في الصغر كالنقش على الحجر.

هذا الكم المَهول من المخاطر التي ورد ذكرها يدفعنا لبذل قصارى جهدنا للحرص على صحة الطفل النفسية والجسدية باستخدام الوسائل التي بين أيدينا باعتدالٍ ووعي، دون إفراطٍ أو تفريطٍ فلا نتأخر عن الركب والتقدم، ولا نتمسّك بها حدَّ الهوس.

وهكذا بقليلٍ من الاهتمام وبالرغم من صعوبة الأمر في البداية، لكن يمكننا أن نملأ وقت الطفل بما ينفعه ويفيد روحه وجسده بإعطائه المساحة الكافية للتأمّل والتفكير والقيام بمختلف النشاطات المتنوّعة التي تساهم في تطوره وبنائه السليم.

المراجع