يتفاوت المربُّون ورعاةُ البيوت في مستوى غرس القيم الشرعية والأخلاقية الأصيلة لدى الأبناء تفاوتًا عجيبًا ما بين طرفي نقيض؛ أحدهما: طرف العناية والإحسان، والآخر: طرف الجناية والعدوان، وما بين الطرفين مستويات متباينة، تقترب أو تبتعد من أحد الطرفين.
ولطالما كانت الأمنياتُ لكثير من المُرِبِّين زادًا؛ لا يسمِن ولا يغني من جوع! ولطالما مضى الزمان وانطوى بأناسٍ يرضون من الغنيمة بالإياب، ومن التربية بالسَّراب! فإذا بهم بَعدَ مضي السنين يعودون بخُفي حُنين!
وفي المقابل يثابر آخرون بزاد من اليقين على العناية والرعاية لأولادهم؛ يحدوهم رجاءُ: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (الفرقان: 74)، ويرفعُ هِمَّتَهم خوفُ: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ (التحريم: 6)!
وهم في شأنهم هذا يتنقلون – كالنحل على الأزهار – بين حِكمةٍ يستلهمونها من وحيٍ مطهر، أو فائدةٍ يستفيدونها من عِلْمٍ مُسَطَّر، أو خبرةٍ وَعَوْها من تجارب السابقين والمعاصرين، بل وفي أنفسهم ومن استرعاهم الله، بالتأمُّل حينًا بعد حين؛ والإصلاح والتقويم!
وفي هذه السطور وقفات مع أنموذج في هذا الباب من التربية الشرعية القيمية، وهو: غرس محبة النبي ﷺ في نفوس الأبناء، ببيان تفاوت القائمين بالتربية فيه من آباء وأمهات وغيرهم، مع إشارات إلى أهم ما يعين على الغرس القِيَمي الصحيح لهذا الأمر الكريم العظيم.
تفاوت رعاة البيوت في العناية بغرس محبة النبي ﷺ في نفوس الأبناء:
تتجلّى أسوأ مظاهر التربية العكسية تجاه هذا الشأن الكريم في حالة فاقدي الأهلية والمسؤولية الذين يسيئون لأنفسهم ومن تحت أيديهم، ممن يُسَمَّوْن بالمسلمين، لكنهم يسيئون للدين وهَدي سيد المرسلين على مرأى ومسمع من ناشئةٍ يشبّون على ذلك، وقد قيل: مَنَ شابه أباه فما ظلم!
وأدنى من هؤلاء شرًّا فئة ممن يصلُّون ويؤدون بعض فرائض الدين، لكنهم يعادون بعض أهل الصلاح، ويرمونهم بالتشدد ويسخرون منهم، لتمسكهم بما لا يروقهم من الواجبات والسنن!
وفي وَسَطٍ بين طرفي الأمور: أهلُ خيرٍ بين اجتهاد وتفريط، يقيمون في بيوتهم الصلاة ومكارم الأخلاق، على غفلة وتقصير عن العناية بغرس محبة وهَدي وسنن النبي ﷺ، فمُقلٌّ ومستكثر، ما بين مَن حظه في ذلك محض الصلاة والتسليم، ومن قد يذكر ما يعرض ويتفق بين حين وحين!
وفوق هؤلاء جميعًا أهلُ العناية والرعاية الحقة، الذي صَدَقوا الله في المحبة؛ فصَدَقهم ووفَّقهم، في أنفسهم ومن استرعاهم؛ فطاب غرسُهم وأضاءت بيوتُهم بالقرآن والسُّنة، بفضل الله ثم القدوة الصالحة التي يضعها الخبراءُ في ذروة سنام التربية؛ إذْ “تعتبر القدوة من أهم وسائل التربية، إنْ لم تكن أهمها على الإطلاق؛ وذلك لوجود تلك الغريزة الفطرية الملحّة في كيان الإنسان التي تدفعه نحو التقليد والمحاكاة، خاصة الأطفال الصغار” ().
وحول هؤلاء، والنصح لأنفسنا وبيوتنا وناشئتنا لبلوغ ما بلغوه، تدور بقيةُ سطور هذا المقال، في هذا الشأن العظيم: غرس محبة النبي ﷺ في نفوس الأبناء؛ الأسباب، والغايات، ومعنى وحقيقة محبة النبي ﷺ كما ينبغي غرسها، إلى ذكر بعض الأساليب المؤثرة في غرس هذه المحبة، ثم إشارة إلى محاذير وعوائق يجب الحذر منها.
لماذا نغرس محبة النبي ﷺ في نفوس الأبناء؟ (الأسباب والغايات)
تتنازع الإجابةَ عن هذا السؤال: الأسبابُ والغاياتُ؛ فما الأسباب التي تدفعنا للعناية بغرس محبة النبي ﷺ في نفوس الأبناء؟ وما الغايات التي نسعى إليها من وراء ذلك؟
فأما الأسباب فمنها: أن محبة النبي ﷺ (وبرهانُها اتباعُه!) جزءٌ لا يتجزأ من محبة الله عز وجل، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (آل عمران:31)؛ فلا سبيل إلى محبة الله بغير محبة نبيه ومصطفاه، واتباع سنته ﷺ.
ومن الأسباب: أن هذه المحبة وسيلة عظيمة لتهيئة قلوب الناشئة لقبول سُنن الهُدى وشرائع الدين؛ إذا أحسِن تلقينُهم وتعليمُهم إياها بما يناسب مراحل أعمارهم، وتقلّبات أحوالهم:
ففي حال الغضب -مثلًا- نذكّرهم بحديث: «لا تغضب» (أخرجه البخاري 6116)، ونقصُّ عليهم قصة الرجل الذي قال للنبي ﷺ: أوصني؛ فذكر له ذلك.
وفي كثرة الكلام بغير فائدة نرشدهم بقوله ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (أخرجه البخاري 6138).
إلى غير ذلك من الأمثلة في ربط الأحداث والمواقف بالسنة النبوية وقصص السيرة؛ مستندين إلى رصيد هذه المحبة في قلوبهم، وشغفهم بما جاء عن النبي ﷺ من أحاديث وقصص.
وذلك أن “نشأةَ الصَّغيرِ على شيءٍ تجعلُه متطبِّعًا به، ومن أُغفِلَ في الصِّغَرِ كان تأديبُه في الكِبَرِ عسيرًا” ()!
ومن الأسباب كذلك: الحاجة إلى مراغمة ما تختزنه عقولهم من غثاء الحياة اليومية والاحتكاك بالأقران والمجتمع برصيد نقي من جوامع الكلم ومعاني الخير؛ التي لن نجد لهم فيها أفضل من آيات القرآن وأحاديث النبي ﷺ.
ومَنْ وفقه الله من رعاة البيوت والمربين في تمكين هذه المحبة في قلوب صغاره، وتعزيزها بتلقين سنته وحفظها؛ فقد حاز خيرًا كثيرًا وتيسيرًا كبيرًا في رحلة تربيتهم الطويلة!
وأما الغايات من وراء غرس محبة النبي ﷺ في نفوس الأبناء؛ فتجتمع كلها في {ابتغاء مرضاة الله}! ولكل مجتهد نصيب من الخير بقدر ما ينويه من:
إحسان التربية «كلكم راعٍ ومسؤول» (أخرجه البخاري 2409).
تبليغ السنة «نضَّر الله امرءًا سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها» (أخرجه الترمذي 2658 وصححه الألباني).
تعليم الخير «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ وأهلَ السماواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها وحتى الحوتَ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ» (أخرجه الترمذي 2685 وصححه الألباني).
إلى غيرها من النيّات الصالحات في مرضاة رب العالمين.
معنى محبة النبي ﷺ وحقيقتها كما يجب غرسُها
إن من أكبر الإشكالات التربوية في مجتمعاتنا: الخطأ في المفهوم الصحيح لبعض القيم التربوية!
ومن ثم يكون العطاء التربوي منقوصًا بسبب عدم ضبط المفهوم!
ومن شواهد ذلك: ما يردّده كثير من عوام الناس أن أهم شيء هو صلاح القلب؛ يردُّ بذلك -مثلًا- المقصِّر في دينه إذا نُصح! والحق أن شرائع الدين تقوم على ركني النية والعمل كما تضمنهما لفظ الحديث: «إنما الأعمال بالنيّات»، إلى غيرها من الأمثلة.
وفي موضوعنا (محبة النبي ﷺ) نحتاج لضبط حقيقة ذلك، وترسيخها في نفوس الأبناء، قبل تلقينهم وتحفيظهم وتعليمهم المعاني؛ فنربّيهم على استحضار قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (آل عمران:31)، وأن حقيقة الحب ليست بالادعاء المجرد!
ومن أفضل ما يعينهم على فهم حقيقة المحبة وأنها فوق كل محبة دنيوية: تعليمهم حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده»، فقال عمر: لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي! فقال له صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال عمر: فإنك الآن أحب إليَّ من نفسي يا رسول الله، فقال له النبي ﷺ: «الآن يا عمر» (أخرجه البخاري 6632).
كما نرشدهم إلى أن هذه المحبة ينتقص منها كل تفريط في جنب الله، سواء بإهمال واجب، أو باقتراف ذنب، ونردد لهم ومعهم قول الشاعر:
تَعْصِي الإِلهَ وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا مُحالٌ في القياسِ بديعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
صور من الأساليب المؤثرة في غرس هذه المحبة
من أساليب الغرس المؤثر في نفوس الأبناء: انتقاء مواضع قوية البيان وسهلة الحفظ من الكتاب والسنة، تتضمن بيان تفضيل الله لنبينا محمد ﷺ على جميع الخلق، وما اختصه به من الشمائل والفضائل، وتدريبهم على إلقائها ومكافأتهم على ذلك.
فنذكر لهم مثلًا معاني سورة الشرح، وأن الله تعالى شرح لنبينا ﷺ صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وفي سياق آخر نذكر لهم أن الله تعالى زكَّاه ﷺ في كل صفاته:
فزكَّاه ﷺ في عقله بقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: 2).
وزكَّاه ﷺ في صدقه بقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَن الهوىَ} (النجم: 3).
وزكَّاه ﷺ برَفع ذكره فقال سبحانه: {وَرَفعنَا لَكَ ذكْرَكَ} (الشرح: 4).
وزكَّاه ﷺ بأخلاقه مجتمعةً بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، إلى غيرها من الآيات ذات الوقع والتأثير في ذهن الصغير.
وكذلك الأحاديث التي يذكر فيها ﷺ تكريم المولى له وتشريفه، كما في حديث: «أنا سيد ولد آدم …» (أخرجه مسلم: 2278)، وحديث الشفاعة حين يتأخر الأنبياء جميعًا ثم يُؤذن لخاتم المرسلين بما اختصه الله به من الشفاعة (أخرجه البخاري:7510)؛ فيقصُّ على الأبناء بأسلوب مشوِّق.
كذلك من أهم الوسائل العملية المؤثرة: تعويد الصغار على تعاهد الأذكار في أوقاتها ومواضعها، كأذكار الصلوات، والصباح والمساء، وسائر الأذكار المرتبطة بأحوال معينة؛ وذلك أن “من أجلِّ فوائد تعويد الأطفال ترديد الأذكار: ترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم؛ لكثرة ما تتضمنه هذه الأذكار من معاني التوحيد والتفويض والتوكل، وأن الله عز وجل هو مالك الضر والنفع وحده .. وغيرها من المعاني العظيمة الجليلة؛ التي يثبِّتها ويقوِّي استشعارها كثرةُ الترديد للأذكار، مع بيان معانيها وفوائدها وآثارها”(!(.
ومن العوامل المعينة كذلك: الحديث مع الأبناء عن أخلاق النبي ﷺ وتعاملاته مع الأقارب والأباعد، وخصوصًا مع الأطفال وكبار السن والنساء، وغيرهم من المسلمين وغير المسلمين، وكم كان أصحابه يحبونه ويجلّونه، ويفتديه الواحد منهم بنفسه وأهله ومن يحب.
محاذير وعوائق يجب الحذر منها
من المحاذير والعوائق التي قد تضاد أو تؤثر بالسلب على رسوخ محبة النبي ﷺ في نفوس الأبناء، ومِن ثَمَّ يجب على المربين ورعاة البيوت الانتباه لها والحذر منها:
خلل القدوة! وهذا من أخطر المضادات للغرس التربوي عمومًا، وكما سبق أعلاه في ذكر تفاوت المربين ورعاة البيوت: يبلغ ذلك الذروة بالقدوة السلبية والمعاكسة التي ابتُليت بها بعض البيوت؛ بانتقاص شيء من السُّنة وشرائع الدين أو المتمسكين بها، وأدنى منه الغفلة والتقصير في تلقين وتعليم السنة للصغار، إلى غيرها من المظاهر.
قرناء السوء! فعلى الوالدين تحري الصحبة الصالحة لأولادهما، التي تدلُّهم على الخير وتعينهم عليه، وفي المقابل الحذر الشديد من مخالطة قرناء السوء الذين قد يهدمون في لحظات ما يبنيه المربي في شهور أو سنين، من مظاهر الاستهانة أو الاستهزاء بالسنة وشرائع الدين.
الغلو في المحبة! فيجب على المربين الانتباه إلى ما قد يقع فيه الأبناء من غُلُوٍّ في المحبة برفع النبي ﷺ فوق منزلته التي أنزله الله، والتي أشار إليها ﷺ بقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» (أخرجه البخاري:3261).
ومن ذلك أن نَقصَّ عليهم قصة من قال للنبي ﷺ: “ما شاء الله وشئت”، ومن قال له: “أنت سيدنا وابن سيدنا”؛ وكيف رد عليهما النبي ﷺ ببيان تحريم جعله ندًّا لله، ونصحهم بالحذر من استدراج الشيطان لهم.
كانت هذه إشارات موجزة في موضوع جليل وعظيم؛ شأنه أن تؤلف فيه المؤلفات ذات المجلدات؛ إذْ هو مَعْلم من معالم الدين، وقيمة عظمى في بناء الشخصية الصالحة.
وعلى الصادقين في الارتقاء بأنفسهم وأبنائهم في هذا الميدان أن ينهلوا من معين الوحي، وأهل العلم والتخصص، وخبرات الحياة، وحصادهم الخاص؛ بما يعينهم على مواصلة مسيرة التربية الإسلامية في ضوء هذا الركن الركين من أركانها.
فهل من مشمِّر عن ساعد الجِد لبلوغ المَجد في هذا الباب الكريم العظيم؟!
إن محبة النبي ﷺ مهوى أفئدة المسلمين، وبقدر صدق هذه المحبة في القلوب والعمل بمقتضاها والحرص على غرسها منذ الصغر؛ يتحقق أثرُها في نفوس الناشئة:
{إِن يَعْلَمِ اللَّـهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا …} (الأنفال: 70).
{إِنَّ اللَّـهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة: 120).
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60).
وصلى الله وسلم على معلم البشرية الخير، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.v