5
الثلاثاء 27 جمادى الآخرة 1445هـ by abofares

الطفل والرقابة الذاتية

هل يراودك سؤال مفاده:كيف لي أن أجعل ابني يلتزم بالفعل الصائب من تلقاء نفسه ودون مراقبة دائمة مني له؟، هل تخشى عليه من فتن هذا الزمان، ومن شبكات التواصل ومن أصدقاء السوء؟

نحلم جميعناً -آباءً وأمّهات- بأنّ يكون طفلُ كلٍّ منّا هو الطفل الأفضل في العالم، الملتزم بالقيم، المجد المثابر، الخلوق المحبوب من قبل الآخرين. قد نراقب أبناءنا، فنكافؤهم تارة، ونعاقبهم تارة أخرى، ولكن كيف لنا أن نضمن بأن يفعلوا الصواب حتى حين تغفل عيونهم عنا؟، وكيف نزرع فيهم الرقابة الذاتية؟

ما مفهوم الرقابة الذاتية؟

الرقابة الذاتية، هي: شعورٌ يأتي من داخل الطفل يجعله يضبط تصرفه ليتمكّن من إتيان السلوك الحسن وتجنب السلوك السالب، والشعور العالي بالمسؤولية تجاه تصرفاته بصورة تمكنه من بذل الجهد في تحقيق أهدافه، والتحكم بسلوكه الاندفاعي ومشاعره السلبية، بحيث يتمكن من تجاوزها بطريقة صحّية.

لماذا الرقابة الذاتية؟  ولماذا زادت أهميتها في الوقت الحالي؟

نحن نعيش في وسطٍ مُغرٍ على جميع الأصعدة، يتطلب مِنَّا كثيراً من المناعة النفسية والصلابة الداخلية؛ لأن العالم كله أصبح مثل القرية الصغيرة، وبخاصة بعد توسع استخدام التقنية، والانفتاح الإعلامي، بصورة مكّنت الطفل من الاطلاع على ثقافات سالبة ومعتقدات سيئة بكبسة زر، وهو ما يعرّضه للدخول في صراعٍ داخليٍّ كبير.

وتعود أهمية تعلم الرقابة الذاتية للأطفال إلى كونها قادرة على:

  1. تعليمهم التحكم في تلبية رغباتهم المختلفة: كأن يتمكن الطفل بنفسه من التوقف عن شراء مزيد من الحلوى لأنه يعلم مخاطر تناولها بكثرة رغم غياب والديه.
  2. تدريبهم على التحكم في المشاعر والانفعالات: من خلال تعويدهم على الانضباط الذاتي ومهارات إدارة الغضب، وتحمل مسؤولية سلوكهم.
  3. تزويدهم بالقدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة: مما يمكنهم اتخاذ قرارات جيدة نابعة من التفكير السليم لا من ضغط الوالدين فيما يتعلق بالواجبات المنزلية وإنفاق المال وضغط الأقران وتجنب المخاطر وغير ذلك.
  4. تبعدهم عن الكذب: فهؤلاء الأطفال – الذين يمتلكون رقابة ذاتية- يتصفون بالاعتراف بالخطأ ومحاولة تصحيحه وتحمل عواقبه، ولا يكذبون، لأن هناك علاقة ثقة واحترام متبادل بينهم وبين الأهل.

ومما يزيد من أهمية الرقابة الذاتية في مرحلة الطفولة أنها مرحلة التأسيس والغرس والبناء في عمر الإنسان ومسيرته.

كيف نربي أبناءنا على الرقابة الذاتية؟

هذه القضية تحتاج إلى نفسٍ طويلٍ من المربين وجهد مستمر، والتربية الصحيحة تحتاج دومًا إلى وعي ووقتٍ وبناءٍ وهدفٍ واضحٍ وتحمُّلٍ، ومع ذلك فتعزيز الرقابة الذاتية في الطفولة أسهل من تعزيزها بعد ذلك. ويمكن تقوية الرقابة الذاتية لدى الطفل من خلال عدة محاور بنائية متوازية:

أولاً: البناء الإيماني

إن استحضار مراقبة الله هو أكبر مُعينٍ على الرقابة الذاتية، وإخلاص النية بطلب الثواب من الله وحده هو أكبر حافزٍ للتصرف السليم في غياب رقابة الأهل.

أفكار عملية:

  1. بناء إيمان الطفل بالله بشرح أسماء الله الحسنى مثل ( القريب المجيب العليم الخبير السميع البصير الرقيب …).
  2. استخدام الأسلوب القصصي مثل: قصة الله يراني، وقصة ابنة بائعة اللبن، ونحوها.

ثانياً: البناء النفسي

الرقابة الذاتية تعني أن يكون الطفل مسؤولًا عن تصرفاته، وهذا يعني بالطبع تعليم الطفل كيفية الاعتماد على نفسه وتحمل مسؤولية تصرفاته لتكوين شخصيّة حقيقيّة لديه، قادرة على مواجهة تحديات الحياة واتّخاذ القرارات الصائبة بدون مراقبة والديه!

أفكار عملية:

  1. تجنّب التحكم المباشر والإملاء الدائم لكل ما يجب أو ما لا يجب على الطفل فعله، واستبدال ذلك بجدول روتين يومي واضح يساعد على تعويد الطفل على كل ما يجب القيام به، مع استخدام الصور والملصقات لتذكير الطفل بجدوله اليومي. ومع مرور الوقت، سيلتزم الطفل ويبدأ بالقيام به لوحده بدون مساعدة أبويه.
  2. تعزيز الثقة بالنفس عن طريق تحميل الطفل بعض المسؤوليات المناسبة لعمره.

ثالثاً: بناء النظام

وجود القوانين من أهم الأمور في كل زمان ومكان، ووجودها في الأسرة يؤسس لعقليات أكثر جدية وانضباطًا، كما إنها تعمل تنظيم حياة الطفل وحفظه للحقوق.

صفات القوانين الذكية:

  1. اشتراك جميع أفراد الأسرة ما أمكن في وضعها، مع توضيح أسبابها وشرح المكاسب منها.
  2. صياغتها بعبارات مفهومة وواضحة تراعي خصائص المرحلة العمرية، مع كتابتها ووضعها في مكان بارز في المنزل.
  3. توضيح عواقب عدم الالتزام بها، دون أن تكون تلك العواقب تعسفية أو جائرة.
  4. الجدية والالتزام الثابت في التطبيق برفق ولكن دون تساهل.

رابعاً: التربية بالعواقب لا بالعنف والقسوة

تؤدي القسوة المطلقة في التربية إلى أحد أمرين: إما صياغة شخصية متمردة في أول فرصة سانحة للتمرد، أو صناعة شخصية خانعة تنحرف مع أي ضغط.

أما الرقابة الذاتية فلن تأتي إلّا بالحكمة والصبر، وبتغيير أسلوب التربية القاسي، ولا يعني ذلك إزالة الحدود وإطلاق العنان للطفل لفعل ما يشاء، بل لابد من حدود وحزم، إنما دون ترهيب وعقاب مخيف. فإذا فهم الطفل أهمّية هذه الحدود، فإنه سيتقبّلها، ويلتزم بها.

والتركيز على تعريف الطفل بعواقب فعله السالب أهم من العقوبة، لأنه متى أدرك بأنّ كل ما يفعله سيعود عليه بنتيجة إيجابيّة أو سلبيّة سيكون التزامه بالحدود والضوابط أفضل.

أفكار عملية:

  1. اترك الطفل يتعلم من عواقب تصرفاته دون تعريضه للخطر، فمثلاً عندما يرفض الطفل ارتداء معطفه دعه ليشعر بالبرد في ذلك اليوم.
  2. اجعل العقوبة متناسبة مع الفعل، فإذا كسر الطفل لعبة أخيه عامدًا على سبيل المثال أخبره أن عليه أن يجمع من مصروفه ثمن لعبة بديلة لها.

خامساً: مهارات حل المشكلات

وهي ما تجعل الطفل حال امتلاكها قادرًا على التصرف بشكل صائب حتى في غياب والديه.

أفكار عملية:

  1. يمكن تعليم مهارات حل المشكلات للطفل بعدة طرق، كإلحاقه بالورش الجماعية أو بلعبة رياضية يحبها، وإشراك الطفل بحسب سنه في القرارات المنزلية.
  2. الحوار باستمرار مع الطفل لتخيل المواقف المختلفة وكيفية التعامل معها.

ومن الأساليب التي تساعد الآباء على تنمية الرقابة الذاتية لدى أبنائهم:

  1. القدوة: بحيث يتعلّم الأطفال من خلال المشاهدة والمراقبة لسلوك من حولهم أكثر من الاستماع لما يُملونه عليه، فعندما يتحلّى الأبوين بأخلاقيّات الرقابة الذاتية ومهارة الانضباط الذاتي، يقتدي بهم طفلهم، ويلتقط عاداتهم.
  2. التحفيز: يفتقر الأطفال غالبًا إلى الحافز الذي يدفعهم لتنفيذ أمر ما، وبخاصة متى كان السلوك المطلوب القيام به مملّاً بالنسبة لهم، ولهذا يجب على الأبوين إعطاؤهم حافزًا للقيام به، بدلًا من الصراخ عليهم وأمرهم به، مثل توضيح أهمية ذلك الأمر، وإضافة القليل من المتعة إليه.
  3. التعزيز: من المهمّ أن نُكافئ الطفل ونثني عليه عند قيامه بسلوك جيّد دون أن يُطلب منه ذلك، ولا بأس من المكافآت غير المشروطة مسبقًا والتنويع بها، والتخلّص منها تدريجيًّا إلى أن يتحوّل هذا السلوك إلى عادة يوميّة، فعندما يكون الطفل في الثالثة من عمره مثلاً يكافئه أبواه على تنظيف أسنانه بالفرشاة، لكن بعد سنّ معيّنة يصبح تنظيف الأسنان عادة لديه. وتتنوّع المكافآت ما بين زيادة وقت اللعب بالألعاب الإلكترونية مثلاً وأخذه في نزهة في الحديقة العامّة، وغير ذلك مما يحبه الطفل.
  4. العلاقة الوثيقة: فكلما كانت العلاقة بين الوالدين وأبنائهما مليئة بالاحترام والثقة، فلن يجد الأب أو الأم صعوبة في غرس القيم الجيدة لدى الأبناء، والشرط الأساس لعلاقة وثيقة وجود الأمان، بحيث لا يخشى الطفل من مصارحة أهله بأفكاره أو أفعاله أو ما حدث معه، ويكون ذلك بالبناء المستمر لجسور التواصل والحوار الفعال بين الآباء والأبناء.
  5. الأصدقاء: فالصاحب ساحب، ويتأثر الأطفال كثيرًا بالبيئة المحيطة بهم، لذا لابد من مساعدة الطفل في اختيار الصديق الصالح؛ وبيان صفاته، ويمكن أن نُساعده في ذلك مثلًا: بتسجيله في نوادٍ معينةٍ، أو مراكز تربويةٍ، أو دور تحفيظٍ، أو في مكانٍ نظن وجود الصالحين فيه.

أفكار لأنشطة مساعدة على تعزيز الرقابة الذاتية:

  1. شرح بعض من أسماء الله الحسنى بشكل عملي مثل تأمُّل انضباط النمل في الحديقة أو تفتح البراعم في الربيع أو القطة التي ترعى صغارها، وربط تلك المشاهدات بأسماء الله (العليم، السميع، البصير، الهادي، الرحيم، المحيي …).
  2. عرض بعض صور السلوكيات الإيجابية والسلوكيات السلبية، بحيث يحدد الطفل السلوكيات الإيجابية ثم يلونها.
  3. لعبة ماذا لو؟ وهي لعبة يتم فيها تخيل موقف معين ونطلب من الطفل التفكير بالتصرف المناسب للتعامل معه.
  4. تفسير سورة الملك بأسلوب سهل.
  5. استخدام القصص والفيديوهات والأفلام التربوية مثل حكاية قصة الثلاثة الذين أغلقت عليهم الصخرة في الغار، وفيلم الجرة (قصة الأمانة)، وغيرها من القصص.
  6. يمكن أن نطلب من الأطفال التفكير في مقترحات لنشر الرقابة الذاتية في المجتمع، وكتابتها بتصميم جميل في لوحة حائطية.

ختامًا أعزاءنا المربين..لنتذكر أن تعليم الرقابة الذاتية للأطفال هي عملية تستمر مدى الحياة، ولا تظهر نتائجها بسرعة، وقد يقاومها الطفل ويتمرد عليها في بعض الأوقات، وهو أمر طبيعي، ولكن الثبات وعدم اليأس، والحكمة والرفق والتدرج، ستؤتي ثمارها على المدى الطويل بإذن الله، وكلما ازداد انضباط أطفالكم، سيتحملون المسؤولية عن سلوكهم، ولن تحتاجوا إلى استخدام أساليب العقاب -في الغالب- بعد ذلك، إنما سيزداد تركيزكم على بناء علاقة صحية معهم والاهتمام بتكوين شخصية متزنة لديهم.