اللغة وبناء شخصية الطفل
تؤدي اللغة دوراً مهماً في حياة الطفل، فعن طريقها يستطيع أن يعبر عن أفكاره ورغباته وميوله، وبواسطتها يتمكن من فهم البيئة التي يعيش فيها، والتفاعل والتواصل الاجتماعي مع الآخرين من حوله، كما تعد اللغة من أهم نوافذ المعرفة وتناقل الخبرات، وتسهم في النمو العقلي للطفل، فالقدرة اللغوية إحدى مكونات الدماغ، وتوجد في الفص الأيسر منه، وعندما تنمو هذه القدرة تنمو حساسية الطفل للغة المنطوقة والمكتوبة، ويمتلك القدرة على استخدامها لتحقيق أهداف معينة، وتوظيفها شفوياً أو كتابياً، وبقدر ما يتوفر للطفل من مناخات ملائمة وبيئة ثرية بالمنبهات والمدركات الحسية وأنشطة متنوعة، فإنه يكتسب المهارات اللغوية السليمة.
وهناك دور فاعل يقع على الأسرة والمدرسة للارتقاء بشخصية الطفل ورعاية نموه وتطوره، من خلال تشخيص الواقع الذي يعيش فيه، والتعرف إلى احتياجاته واهتماماته، والعمل على ضبط السلوك الذي يمارسه سواءً بمفرده أو بمشاركة الآخرين، ومساعدته على تجاوز الأزمات النفسية والتربوية التي تؤثر في نموه اللغوي والمعرفي.
ومن الملاحظ أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربوية تركز على الجوانب المعرفية في شخصية الطفل على حساب الجوانب الوجدانية والنفسية والاجتماعية والجسمية، وذلك لتلبية مطالب الوالدين في تحقيق التفوق الدراسي للأبناء، فتركز ــ فقط ــ على تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وتهمل مطالب النمو الأخرى، مما يسبب خللاً في بناء شخصية الطفل، لذا يجب على مؤسسات التنشئة الاجتماعية ممثلة بالأسرة والمدرسة والمحاضن التربوية و النوادي الاجتماعية والمنتديات الثقافية الحرص على بناء شخصية الطفل بناءً متكاملاً، يراعى فيه تنمية جميع جوانب الشخصية.
وسنتناول في هذا المقال أهمية اللغة في بناء شخصية الطفل المسلم، من حيث أهمية اللغة في بناء شخصية الطفل، والعوامل المؤثرة في التنشئة اللغوية للطفل، ودور كل من الأسرة والمدرسة في تنشئته اللغوية وبناء شخصيته، وتُعرَّف اللغة بأنها وسيلة الاتصال والتخاطب بين البشر والتفاهم بينهم، فهي طريقة إنسانية فطرية ومكتسبة لإيصال الأفكار والانفعالات والرغبات بواسطة نظام معين من الرموز يختارها أفراد المجتمع ويتفقون عليها، كما تُعرَّف اللغة بأنها قدرة ذهنية تتكون من مجموع المعارف اللغوية بما فيها المعاني والمفردات والأصوات والقواعد التي تنظمها جميعاً، ويولد الطفل ولديه استعداد فطري لاكتسابها.
وفي هذا الصدد يجب بذل الجهود بشكل علمي لتطوير لغة الطفل، وذلك بتهيئة الوسط الذي يعيش فيه لتصحيح أشكال الأداء اللغوي عنده وزيادة حصيلته اللغوية، من مفردات وتراكيب ومعان، وتقديم خبرات غنية في عمقها، ومتسعة في مداها، من شأنها أن تستثير إمكانات الطفل ودوافعه، وتنمي قدراته على الاستخدام الجيد للغة، ووقايةً له من الاضطرابات اللغوية؛ فهي من أشد المشكلات وأعمقها نتيجة لتأثيرها السلبي على مستوى الذكاء والتفكير والعمليات العقلية كافة، كما أن الأطفال الذي يعانون من بطء الكلام تضطرب علاقاتهم مع الكبار ويقل ارتباطهم بهم، مما يشعرهم بالقلق والإحباط ويقل لديهم الشعور بالأمن.
محتويات المقالة
أهمية اللغة في بناء شخصية الطفل
اللغة من ضرورات الحياة والاتصال ومن أساسيات التفكير، ومن الضروري إكساب الطفل قدراً كبيراً من المفاهيم والألفاظ والكلمات التي تنمي محصوله اللفظي، وتمكنه من اكتساب المهارات اللغوية في التعامل والتفاعل مع الآخرين، فهي أداة قوية لتنمية شخصية الطفل، تتيح له إيصال أفكاره ومشاعره، والتعبير عن ذاته، واحتياجاته، وتنمية مهاراته، والتعرف إلى العالم من حوله، وتنبع أهمية اللغة في بناء شخصية الطفل مما يلي:
- اللغة وسيلة التفكير، فهي تتيح للطفل فرصة تحديد وتوجيه تفكيره، وتمكنه من صياغة أفكاره في كلمات ليوصلها إلى غيره، ومن خلال الكلمات والمعاني تشكل المادة الخام التي يستخدمها في عملية التفكير، وبالتالي يصبح لها وظيفة أو هدف، وهو تنظيم تفكير الطفل.
- اللغة ضرورية للتعلم، فاللغة تمكن الطفل من الوصول إلى المعلومات والمعارف، والاطلاع على الخبرات والتجارب، والتعرف إلى ما أنتجه العالم من حوله، من خلال قراءة الكتب والقصص والاستماع إلى المحادثات، وتصفح المواقع والقنوات المختلفة.
- النمو اللغوي له دور في النمو الانفعالي، فالأطفال الذين يفهمون المفردات المعبرة عن المشاعر والانفعالات، ولديهم القدرة على تحديد نوع الشعور، من فرح وحزن، وإحباط وارتباك، وبكاء، وضحك، وغضب ورضا، يتمكنون من فهم وإدارة انفعالاتهم والتعبير المناسب عنها.
- النمو اللغوي يسهم في النمو الاجتماعي للأطفال وبناء العلاقات، فالمهارات اللغوية تساعد الأطفال على الاشتراك في الألعاب الجماعية مع الآخرين، بالإضافة إلى أن القدرة على الاستماع والتحدث الجيد تمكّن الأطفال من التواصل الفعال وتبادل الخبرات معهم، فتنمو كفاءتهم الاجتماعية.
- اللغة موحدةّ للأمة العربية، وتعد من أهم عوامل النهضة الفكرية، ويجب تأسيس الولاء للغة العربية، وغرس الاتجاهات والقيم الإيجابية لدى الطفل المسلم.
العوامل المؤثرة في التنشئة اللغوية للطفل
تتأثر التنشئة اللغوية للطفل بعدد من العوامل، لعل أهمها ما يلي:
- الممارسة والتكرار: فعندما يمارس الطفل الألفاظ اللغوية بصورة تلقائية، ويتم تصحيح الأخطاء تدريجياً، فإنها تترسخ في الذاكرة طويلة المدى، ويتمكن الطفل من استدعائها بسهولة في الوقت المناسب.
- التعلم والفهم: فكلما زاد تعلم الطفل وفهمه وتفكيره العميق في المشكلات التي تواجهه، زاد تفاعله وزادت رغبته في تعلم واكتشاف المزيد من الألفاظ والمعاني، وبالتالي يزيد استخدامه لها، وتمكنه منها.
- البيئة الغنية بالمثيرات اللفظية: فالنماذج المتميزة بالأداء اللغوي، مثل المحادثات بين الوالدين وبين الإخوة وبين المربين، والمحادثات مع الطفل، وسماع تلاوات القرآن الكريم والأناشيد بأصوات جميلة، ومشاهدة المناظرات الثقافية والمساجلات الشعرية، تجعل أطفال هذه البيئات يتحدثون ويعبرون عن آرائهم بشكل تلقائي، على عكس البيئات الفقيرة من تلك المثيرات.
- الحالة الصحية للطفل: إذ يتأثر النمو اللغوي بسلامة الأجهزة الحسية السمعية والبصرية للطفل، فالأطفال الذين يتمتعون بصحة جيدة، يتفوقون في نموهم اللغوي على الأطفال الذين يعانون من اعتلالات صحية أو إعاقات حسية.
- النضج البيولوجي: فالأطفال الذين تتطور لديهم مناطق الدماغ الخاصة باللغة والكلام، والتي تتحكم بآليات ربط الأصوات والأفكار والتعبير، يتفوقون على غيرهم في النمو اللغوي.
- القدرات العقلية: يتصف الطفل بالخصوبة في الخيال والقدرة على الربط بين الأسباب ونتائجها، والطفل الذي يتميز بذكاء عال يتفوق على الأطفال العاديين في محصوله اللغوي، كما يتميز باكتساب اللغة في عمر زمني مبكر مقارنة بأقرانه.
- العوامل الأسرية: فالترتيب الميلادي للطفل في الأسرة، والظروف الاقتصادية والاجتماعية للأسرة، والمستوى التعليمي للوالدين كل ذلك له أثر في تنشئته، حيث إن الطفل الوحيد أكثر ثراءً في محصوله اللغوي من الطفل الذي لديه إخوة كُثر، كما أن أطفال الأسر الميسورة اقتصادياً أو المستوى التعليمي للوالدين عاليا، يتمتعون بثروة لغوية كبيرة مقارنة بغيرهم من أطفال الأسر الفقيرة.
- الصحة النفسية للطفل: فالطفل الذي يتمتع بشخصية متوافقة نفسياً، يتحدث بشكل أفضل من الطفل الذي لا يتمتع بتوافق نفسي، بالإضافة إلى أن الطفل الذي لديه دافع قوي للتواصل مع الآخرين، يزداد لديه الدافع لتعلم اللغة بشكل أسرع.
- وسائل الإعلام: فالدور الذي تقوم به وسائل الإعلام من برامج إذاعية وصحفية وتلفزيونية، يسهم في زيادة المحصول اللغوي للطفل.
- النوع: أثبتت كثير من الدراسات أن الإناث أسرع في النمو اللغوي من الذكور.
دور الأسرة في التنشئة اللغوية للطفل وبناء شخصيته
الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الأكبر تأثيراً في نمو الطفل اللغوي، ويؤدي الوالدان دوراً هاماً في التنشئة اللغوية للطفل وبناء شخصيته، فالطفل يبدأ بمحاكاة ما ينطق به المحيطون به، وعلى الأسرة تشجيع أطفالهم على الاختلاط بالآخرين، فلغة الراشدين أفضل نماذج يمكن أن يحاكيها الطفل، وكلما اتصل الطفل بوالديه وبالكبار عامة،كان أكثر قدرة على الكلام مبكراً، كما أن تواصله مع الآخرين يساعده في تطوير قدراته على الكلام، لأنه يصبح في حالة محاكاة لغوية دائمة، لذلك يجب أن يقوم الآباء بتخصيص وقت كاف للحديث مع أطفالهم، وتشجيعهم على التحدث في حضورهم، وتقوم الأسرة بدور أساس لتطوير النمو اللغوي لدى الطفل من خلال ما يلي:
- إتاحة الفرصة للأطفال للتعبير عن رغباتهم وميولهم، وتشجيعهم على ذلك، وحفزهم على التحدث عن الخبرات اليومية التي يمرون بها، وإثرائها من خلال مقابلة أشخاص جدد، والتعرف إلى أماكن وأدوات وألعاب لم يألفوها من قبل، وتعريضهم لمواقف متنوعة، ومناقشتهم في تلك الخبرات والمواقف الجديدة، والتعليق عليها لتثبيتها.
- إتاحة الفرصة للأطفال للاستماع إلى ما تقدمه المنصات التعليمية والإذاعات والتلفزيون من برامج خاصة بالأطفال، لتنمية ميولهم وتحفيزهم على القراءة والاطلاع، وتشجيعهم على محاكاة النماذج التي تعرض في هذه البرامج.
- تهيئة البيئة المنزلية لتقوية الممارسة اللغوية لدى الطفل، في وقت مبكر من حياته، عن طريق قراءة الوالدين لطفلهم القصص القصيرة والمسلية والمشوقة، وإهدائهم القصص المصورة التي تجيب عن تساؤلاتهم، وتعرفهم بالحقائق والمعلومات التي يرغبون بها، فالمحيطون بالطفل هم بمثابة نماذج لغوية لهم أهمية خاصة في التأثير على نمو اللغة التواصلية للأطفال.
- توفير بيئة لغوية وثقافية في الأسرة تسهم في إثراء خبرات الطفل وتنمي مهاراته اللغوية، من خلال إشاعة جو الحوار والمناقشات الهادئة والهادفة، والتحدث مع الطفل باستمرار، وتشجيعه على طرح الأسئلة عن كل ما يجول في خاطره، والإجابة بصدق عن تساؤلاته، لتعزيز الثقة بين الطفل والوالدين.
دور المدرسة في التنشئة اللغوية للطفل وبناء شخصيته
تعمل المدرسة على توفير بيئة صفية وظيفية، تنمي لغة الطفل وقدراته القرائية والكتابية، وهي إحدى مهام المعلمين والمربين والإدارات التربوية، وتقوم المدرسة والمحضن التربوي بأدوار كثيرة لعل أهمها ما يلي:
- تدريب الأطفال على الطلاقة اللفظية في التحدث، من خلال توظيف المهارات اللغوية للأطفال في الأنشطة الصفية واللاصفية، مثل: المسابقات الثقافية، والمسابقات، والمناظرات، والنشاط المسرحي، والعصف الذهني، والمشاركة في الإذاعة المدرسية، وغيرها.
- توفير المصادر التعليمية في غرفة الصف، وذلك لتحقيق أهداف الطفل باستخدامها أثناء التعلم، مثل: وسائل القراءة والكتابة والتسجيل الصوتي والمرئي، ووسائل الاستماع والمشاهدة، وتوفير المحتوى الهادف من الأفلام والألعاب التعليمية.
- توفير مكتبة في كل صف تحتوي على مجموعة من الكتب المتنوعة والمختلفة في الأسلوب والنمط والشكل من حكايات، وقصص خيال، وكتب مصورة، وكتب الحروف الهجائية، وكتب العد، وصحف، ومجلات، ومراجع، مما يتيح للأطفال الاستفادة منها في القراءة والاطلاع وتنمية المفاهيم اللغوية.
- تنظيم غرفة الصف بطريقة تُمكّن الأطفال من التعلم الذاتي بمسؤولية، وينمي لديهم إدراك الفائدة من القراءة والكتابة، فيتم تكليفهم برصد الغياب والحضور، وكتابة يوميات الصف، والسجل الأكاديمي وملفات الاختبارات، وإدارة مكتبة وبريد الصف، وفي هذه الحالة يشعر الطفل أن تعلم القراءة والكتابة له أهداف حقيقية بالنسبة لمجريات الحياة اليومية في غرفة الصف وخارجها.
- إنشاء مجتمعات مصغرة من القراء والكتاب على مستوى الصف، ونادي للقراءة على مستوى المدرسة، مما يشكل تفاعلات ثقافية وأنماطاً اجتماعية لها تأثير في نمو اللغة لدى الأطفال، ومن هذه الأنشطة: تنظيم برامج قراءة وكتابة في موضوعات مختلفة، مثل: القراءة الصامتة، والقراءة الجهرية، والتركيز على استخدام مهارات التفكير العليا من تحليل وتركيب وتقويم، وإجراء لقاءات منتظمة بين المربين والأطفال، وتنظيم الأطفال في مجموعات تعاونية، وتشجيعهم على الكتابة الحرة، وتدريبهم على تحسين الخط والإملاء.
خلاصة القول إن اللغة بأشكالها المختلفة، سواءً كانت استماعا أم محادثةً أم قراءةً أم كتابةً، تشكل الإناء الذي تحدث فيه معظم الأنشطة الإنسانية، سواءً أكانت عقلية أم اجتماعية أم انفعالية أم جسمية، فاللغة هي الركيزة الأساسية في بناء شخصية الطفل العقلية والفكرية والنفسية والاجتماعية، وبها يتعلم ويفكر ويفهم العالم من حوله، وهي الوسيلة الأهم التي تمكن الأطفال من التوافق مع الآخرين، والتواصل وتبادل الخبرات معهم.